كثير من الناس يعرف فضل التوحيد، لكن صورة التوحيد التي بعث الله بها الرسل وحقيقته غير واضحة عنده، وإذا كان هذا يقع فيه كثير من أصحاب الشهادات ممن ينتسب إلى الفقه والتصوف وغيرهم، فكيف بغيرهم من الناس ؟! ولذلك أحببنا أن نبين "حقيقة التوحيد" في هذه الفصول التي نرجو من الله أن تساعد القارئ المبتدئ على تكوين صورة واضحة عن حقيقة التوحيد التي بعث الله بها الرسل.
المبحث الأول: معنى التوحيد:
التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد توحيداً، أي: جعل الشيء واحداً،والتوحيد هو مصدر وحد على وزن فعّل بتشديد العين المهملة، وكل ما كان على وزن (فعّل) فمصدره على وزن (تفعيل) نحو درس يدرس تدريساً، وشغل يشغل تشغيلاً، وكلم يكلم تكليماً ومنه الآية: (وكلم الله موسى تكليماً) ونحو ذلك.
والتوحيد شرعاً: إفراد الله تعالى بما يستحقه من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذا يعني تنوع التوحيد إلى ثلاثة أنواع سيأتي الكلام عليها.
فالتوحيد في أصل اللغة والشريعة هو بمعنى الإفراد، فالتوحيد هو إفراده سبحانه بهذه الخصائص التي تفرد بها، فلا يشاركه فيها أحد مهما علت منزلته سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو رجلاً صالحاً.
وينبغي أن يعلم أن التوحيد بأنواعه لا يقوم حتى يجتمع الإقرار به في قلب العبد وعلى لسانه، والعمل به بجوارحه.
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي في "كشف الشبهات": (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً).
المبحث الثاني: الأدلة على كلمة "توحيد":
يزعم أعداء التوحيد أن كلمة "توحيد" كلمة مبتدعة ليس لها أصل وهذا قول باطل، فإن أصل كلمة التوحيد معروف في اللغة كما تقدم، ومعروف في الشريعة أيضاً، ونحن سنسوق هنا بعض الأدلة على أنها معروفة أيضاً.
أدلة القرآن:
قال تعالى: (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً) وقال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)وقال تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير)وقال: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) وقال: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تؤمنوا بالله وحده) وقال: (وما من إله إلا إله واحد) وقال: (وإلهكم إله واحد) وقال: (قل هو الله أحد) ونحو ذلك.
أدلة السنة:
1- قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أرسله إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى) وهو في "الصحيحين" وهذا لفظ البخاري.
2- وقال صلى الله عليه وسلم: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دونه، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) رواه مسلم وغيره عن طارق بن أشيم.
3- وفي حديث عمرو بن عبسة الطويل في "صحيح مسلم" وهو حديث مشهور قال عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: (فقلت له ما أنت؟ قال: (أنا نبي) فقلت وما نبي؟ قال: (أرسلني الله) فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء).
4- وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
5- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشاماً نحر حصته خمسين بدنة وإن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه لنفعه ذلك) رواه أحمد، وهو في "الصحيحة" برقم: (484).
6- وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في "صحيح مسلم" في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (حتى إذا كان بالبيداء أهل بالتوحيد).
المبحث الثالث: أركان التوحيد:
1- ركنا التوحيد النفي والإثبات:
للتوحيد ركنان لا يُستغنى عنهما: الأول: هو النفي، والثاني: هو الإثبات، فلا يكون التوحيد توحيداً إلا بهذين الركنين، فالنفي فيه سلب ما يختص بالله عن غير الله، والإثبات فيه إفراد الله بهذه الأمور.
ونضرب على هذا مثالاً فنقول: لو أردنا أن نفرد زيداً بالعلم من بين الناس في بلد من البلدان، فلا يكفي أن نقول: (زيد عالم) لأن هذا فيه إثبات العلم لزيد لكن ليس فيه إفراد زيد بالعلم فيبقى احتمال أن هناك عالماً غيره، ولو قلنا: (لا عالم في البلد) لكنا قد نفينا العلم عن الجميع، وهذا فيه تعطيل، فالعبارة السـليمة أن نقول: (لا عالم إلا زيد) فنكون قد نفينا العلم عن غير زيد، وأثبتناه له وحده فقط.
ولذلك فألفاظ القرآن كلها في هذا الباب تدل على هذا الإفراد الذي ذكرناه بجميع صوره المعروفة في اللغة العربية، وصوره في اللغة العربية هي:
الأولى: تقديم ما حقه التأخير، مثل الظرف والجار والمجرور، وإنما قلنا حقها التأخير لأنها تأتي دائماً خبراً للمبتدأ على أحد الإعرابين، أو تتعلق بخبر محذوف على الإعراب الآخر، فإذا كانت كذلك فقد تقدمت فهي تفيد الحصر، مثل: (فابتغوا عند الله الرزق) ولم يقل: "فابتغوا الرزق عند الله"، فقوله: "فابتغوا عند الله الرزق" أي: عند الله وحده.
الثانية: أو تقديم المعمول مثل: (إياك نعبد، وإياك نستعين) والشاهد تقديم ضمير النصب، والمعنى: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.
الثالثة: النفي ثم الاستثناء، كقوله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله)، وسواء كان الاستثناء بإلا أو غيرها من أدوات الاستثناء.
الرابعة: بوجود "إنما" بكسر الهمزة، كقوله تعالى: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي".
الخامسة: تعريف المبتدأ والخبر مثل: "الله الصمد"، والصَّمد: هو السيد العظيم الذي تُصْمد إليه الحوائج، أي يُقصد بها، والمعنى الله الذي يقصد بالحوائج، لا يُقصد بالحوائج والسؤال إلا هو وحده.
وإليك بعض هذا الإفراد المستفاد من الصور المتقدمة، فمن ذلك قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وهذا أمر بعبادة الله ونهي عن صرف العبادة لغيره فهذا توحيد، وقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وهذا نفي وإثبات فهو توحيد، وقوله: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني لكم نذير مبين) وقوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله) فيه النهي عن عبادة غير الله والأمر بعبادته وحده فدل على التوحيد، وقوله: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) كذلك، وغير ذلك من الآيات.
- معنى النفي الكفر بالطاغوت، ومعنى الإثبات والإيمان بالله:
واعلم أن النفي يحمل معنى الكفر بالطاغوت، وأن الإثبات يحمل معنى الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت والإيمان بالله هما الجناحان اللذان يطير بهما طائر التوحيد، كما قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) وكلمة التقوى والعروة الوثقى هي لا إله إلا الله، وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) فالإيمان بالله وحده متوقف على الكفر بالطاغوت.
ومن هنا نعلم خطورة دعوى "حرية الاعتقاد" على عقيدة التوحيد ومصادمتها لهذه العقيدة العظيمة، لأن الكفر بالطاغوت منـزوع من قانون "حرية الاعتقاد"، فحرية الاعتقاد تعطي الحق لمن شاء أن يعبد ما شاء من الأوثان، في الوقت الذي تمنع الآخرين من الاعتراض عليه أو رد باطله، ولا شك أن هذا مصادم للكفر بالطاغوت الذي هو الركن الأول من أركان التوحيد، لأن الكفر بالطاغوت يوجب على الموحد التبرؤ من عبادة غير الله ومعاداة أهله صراحة وبكل وضوح، وهذا غير ما تجنيه هذه الدعوة المنحرفة على الجهاد في سبيل الله وهدم معالم الشرك، لأنه فرع الكفر الطاغوت.
والخلاصة أن دعوى "حرية الاعتقاد" تجني على مقاصد التوحيد وووسائله، ففيها فساد الدنيا والآخرة.